بين رمال الصحراء و أمواج البحر

كان يحلم بحياة أخرى، حياة تنتهي فيها أصوات الطائرات الحربية وأزيز الرصاص. لم يكن يحلم بالكثير، فقط بسماء صافية ونوم هانئ دون خوف من الموت. هناك، في بلده الذي مزقته الحرب، لم يعد الأمل موجودًا، فقط الخوف والدمار. في يومٍ مشؤوم، اتخذ القرار الذي سيغير حياته للأبد. لم يعد أمامه خيارٌ سوى الهروب، الهروب إلى المجهول. سمع الكثير عن ليبيا، تلك الأرض التي أصبحت محطة عبور للهاربين من جحيم أوطانهم. أخبره أحد الأصدقاء: “في ليبيا هناك فرصة، وإن كانت ضئيلة. هناك من يهرب عبر البحر، يبتعدون عن هذه الأرض، لكن الطريق طويل ومرعب.” جمع أغراضه القليلة، ودّع أمه بنظرة حزينة، ونزل إلى الشارع الذي كان مليئًا بالحطام. لم يكن يعرف كيف ستنتهي هذه الرحلة، لكنه كان يعرف أن البقاء يعني الموت.
عندما دخل الحدود الليبية عبر الصحراء، ظنّ للحظة أن الجحيم الذي هرب منه قد انتهى، لكن الحقيقة كانت أكثر بشاعة مما تخيل. تم القبض عليه عند إحدى النقاط العسكرية ونقل إلى معسكر احتجاز. الأسلاك الشائكة تحيط بالمكان، والوجوه القاسية للحراس تراقب كل تحرك. في المعسكر، كان يُعامل كما لو كان مجرد رقم، بلا اسم أو ماضٍ. قضى هناك شهرين، شهرين من الجوع والقهر. كل يوم كان مثل الذي سبقه، حياة تسير بلا أمل، مليئة بالتعبير الخاوي على وجوه المحتجزين. الليل كان طويلاً، يحمل معه آلام البرد والخوف من المستقبل المجهول. كان يسمع بين الحين والآخر عن أشخاص حاولوا الهروب عبر البحر، بعضهم نجح، ولكن الكثير منهم ماتوا غرقًا، أو أعيدوا ليواجهوا نفس المصير في هذه المعسكرات.
بعد أن أطلق سراحه من المعسكر، وجد طريقه إلى مدينة ساحلية تعج بالمهاجرين الحالمين بالفرار عبر البحر. كانت الأمواج هي الملاذ الأخير للكثيرين، لكن البحر كان غادرًا، مثل الأرض التي هربوا منها. ركب قاربًا مع عشرات الآخرين. كان الظلام يلف المكان، والماء البارد يضرب جوانب القارب الهش. كانوا يعرفون أن الرحلة خطرة، وأن النجاة ليست مضمونة، لكن الخوف من البقاء كان أكبر. لم تمض ساعات حتى اعترضتهم القوات . تم القبض عليه مجددًا، هذه المرة نُقل إلى سجن في مدينة أخرى. ظل هناك لأربعة أشهر، شهور كانت أكثر قسوة من سابقاتها. الضرب، الجوع، والألم، كانت جزءًا من حياته اليومية.
بعد محاولات عديدة للهروب، وجد نفسه مع مجموعة من المهاجرين الذين تم القبض عليهم مجددًا، ولكن هذه المرة كانت القسوة مضاعفة. تم تجميعهم جميعًا وإلقاؤهم في الصحراء، تلك الصحراء التي لا تعرف الرحمة، بلا طعام أو ماء. كان يسير تحت الشمس الحارقة، يرى في كل لحظة الموت يتربص به وبمن حوله. في اليوم الثاني من الرحلة عبر الصحراء، سقط العديد من رفاقه، البعض منهم مات من العطش والبعض الآخر من الإرهاق. لم يكن هناك وقت للبكاء أو الحزن، كان عليهم الاستمرار في السير. كل خطوة كانت تقربهم من الموت أو الحياة، لكنه لم يعد متأكدًا من أيهما.
بعد أن نجا بصعوبة ووصل إلى مدينة مأهولة بالسكان، كان قد فقد كل شيء. أصدقاؤه ماتوا، ولم يعد يعرف إن كان هناك أحد ينتظره في العالم. وجد نفسه مجددًا قريباً من البحر، في المدينة التي أصبحت بوابة للهروب نحو المجهول، ولكنه هذه المرة كان وحيدًا. جلس بجانب البحر في إحدى الليالي، ينظر إلى الأمواج وهي تضرب الشاطئ، كأنها تذكره بمحاولاته الفاشلة في الهروب.

كانت الأمواج تتحدث إليه، تخبره أن الرحلة لم تنتهِ بعد. كان هناك أمل، ولو كان صغيرًا، وأن المحاولة الجديدة قد تكون هي الأخيرة.