حنان طريدَةُ الحروب

كانت حنان، السيدة الصومالية ذات الوجه المليء بالأسى والقلق، تحمل قلبًا مثقلاً بذكريات الحرب وفقدان الأحبة. خرجت هاربة من وطنها، من صومالٍ مزقتها الحروب والنزاعات، حيث فقدت زوجها ورفيق دربها أمام عينيها، لترى نفسها وحيدة مع أربعة أطفال صغار، محمَّلة بواجب حمايتهم وتأمين مستقبلهم.
بعد سفر طويل ومؤلم، وجدت ملاذها في السودان. كانت قد أملت بأن يُكتب لها هناك حياة مستقرة، فأنشأت مشروعًا بسيطًا لبيع الشاي والقهوة وبعض السندوتشات. لم يكن المشروع بالكبير، لكنّه كان ينبوع أمل لها ولأبنائها؛ كان يوفر لهم قوت يومهم وفسحة من الكرامة والأمان. وسط الأكواب البسيطة وأبخرة الشاي المتصاعدة، كانت حنان تشعر بالفرح؛ فقد عاد لها شيء من الاستقرار الذي كانت قد فقدته طويلاً.
لكن كما كانت تتذوق طعم الأمان لأول مرة منذ زمن، كان القدر ينسج خيوطًا أخرى. اشتعلت الحرب في السودان، حربٌ أخرى تطاردها كما لو أنها لعنة لا تفارقها. تروي حنان بأسى: “أحسست كأني لعنة تمشي على الأرض؛ ما إن أجد ملاذًا حتى تلاحقني نار الحرب من جديد”. هذه الحرب الجديدة لم تترك لحنان خيارًا سوى الهروب مرة أخرى، فالخوف من فقدان أحد أبنائها كان يحيط بها كظلال سوداء في كل لحظة، كما فقدت من قبل زوجها.
في تلك الليالي السوداء، جمعت حنان أبناءها، وحزمت أشياءها القليلة وبعض المال الذي كانت تدخره من عملها. خرجت بهم نحو الصحراء، لا تعرف أين سيكون ملاذها القادم، لكنها تعلم أن بقاءها يعني تعريض أبنائها للخطر. قادتهم أقدامهم نحو إحدى القرى الحدودية مع ليبيا، حيث كان الهاربون الآخرون يحكون عن طريق جديد قد يجلب لهم أمانًا ولو نسبيًّا في ليبيا.
هناك، تعرفت حنان على عائلات أخرى تبحث عن نفس الملاذ، فقرروا التوجه معًا، واتفقوا مع أحد المهربين الذي وعدهم بنقلهم إلى بر الأمان. دفعت حنان كل ما بحوزتها، وهي تعرف جيدًا أن ما تدفعه ليس فقط مالاً، بل كل أملها في النجاة والوصول.
كانت الرحلة في الصحراء كالكابوس، يحيط بهم الظلام الدامس، والصمت يطبق على أنفاسهم، فلا بشر ولا مأوى، فقط رمال قاحلة تمتد إلى ما لا نهاية. كان زادهم من الدقيق والماء يُطهى على نار صغيرة، يأكلون منه قليلًا ليبقيهم على قيد الحياة، ومعه بعض التمر والماء الذي يتناقص كلما قطعوا مسافات أطول.
وأخيرًا، بعد أيام طويلة من الرعب والمعاناة، وصلت حنان وأطفالها إلى ليبيا، ظنًا منها أن هذا هو الملاذ المنشود. لكن ما إن سألت عن المفوضية المعنية بشؤون اللاجئين حتى أُخبرت بأنها تبعد حوالي 1500 كيلومتر، في العاصمة طرابلس. في تلك اللحظة، شعرت بأن قوتها تخور، أحاطها شعور بالموت والقهر من كل جانب. نظرت إلى أطفالها، إلى وجوههم البريئة التي لم تذنب بشيء، واستجمعت ما بقي من شجاعة. كانت تعلم أن لا وقت للبكاء الآن، فالطريق إلى الأمان طويل، وواجبها يحتم عليها الصمود والقتال حتى تصل.
واليوم، حنان تمكث في الكفرة، تعيش على الأمل وتنتظر أن تجد طريقًا إلى طرابلس، إلى الملاذ الذي يمكن أن يحميها هي وأبناءها، علّها تُدرك أخيرًا نهاية هذا الطريق الشاق.