في منتصف أبريل

كانت الشمس ساطعة، كعادتها في ذاك الوقت من العام، لكن يوم الخامس عشر من أبريل حمل في طياته شيئًا لا يمكن نسيانه أبدًا.
كان يومًا كُتب فيه على حياتي أن تنقلب رأسًا على عقب، أن أُفارق البيت الذي عشت فيه عمري وأغادر بلدي الحبيبة.
يومٌ كُتب فيه أن أتحول إلى لاجئة، مفقودة وسط حشود الفارين، باحثة عن النجاة وسط ظلام الحرب ودمارها.
اندلعت الحرب كوحشٍ جائع لا يرحم، كأنه لم يُخلق إلا ليتربص بنا ويشرّدنا، يباعد بيننا وبين أسرنا، ويجعلنا ننسى تلك اللحظات البسيطة التي كنا نظنها عادية، لكنها اليوم تبدو كنِعَم لا تُقدّر بثمن.
حين بدأ الرصاص يمزق الهواء من حولنا، لم يكن هناك وقت للتفكير، لم يُسمح لنا حتى أن نلتفت إلى الوراء.
كنّا محاصرين بالخوف، والموت يزحف من كل اتجاه.
اجتمعتُ مع زوجي وأطفالي الخمسة، واتخذنا قرار الهرب نحو الشمال، دون أن نعلم مصير إخوتي أو والدتي أو جيراننا.
كانت الذكريات تتلاشى أمام الواقع الجديد الذي فرض علينا أن نفرّ ونتشبث بالحياة.
وصلنا إلى الحدود بعد مسيرة طويلة، متجهين نحو مصر.
لكنها كانت غارقةً في تحدياتها الاقتصادية، وبدت غير قادرة على تقديم ما يحتاجه لاجئون مثلنا.
كنا نبحث عن الأمان، ولكن كيف نضمن حياة كريمة لأطفالنا في بلدٍ يعاني شعبه؟
بدأنا نفكر بالانتقال إلى ليبيا، لعلّها تكون ملاذًا نستقر فيه.
رحلة شاقة نحو المجهول
تسلّلنا عبر الحدود الليبية المصرية، لكن الطريق كانت وعرة، مسالكها خالية من أي بشرية، ممتدة عبر الجبال والسهول.
أصغر أطفالي كانت خطواته بالكاد تستطيع مواكبة حركتنا، وقلبي يتمزق بين إرهاق الطريق وقلقي من أن يفترسنا الضعف في أي لحظة.
كنّا نسير على أقدامنا، أقدام أنهكها الصعود والهبوط، ورغم كل شيء، كان الأمل يدفعنا، الأمل بأن ما ينتظرنا خلف هذه الجبال هو الجنة التي نتوق إليها.
لكن عند وصولنا إلى ليبيا، حدث ما لم يكن في الحسبان.
عند إحدى نقاط التفتيش، تم القبض على زوجي وابني الأكبر.
شعرت حينها بأنني أقف على حافة الانهيار، وقد أصبح أبنائي الأربعة يتامى المعيل بين يدي.
في تلك اللحظة، قررت أن أقف وأقاوم رغم كل شيء، كان عليّ الصمود لأجلهم، للمضي نحو العاصمة، حيث مكتب مفوضية اللاجئين.
بين أيادي المهربين
تحركنا في الطريق إلى العاصمة، حيث يجلس المهربون مترصدين كذئاب تنتظر فرائسها.
كل خطوة كانت تزداد فيها خطورة الموقف، وكنّا نتعرض لإهانات لم أكن لأتخيلها.
كنا نعامل كعبيدٍ، لا كائنات تستحق العيش، ونتعرض للضرب والشتم والجوع.
كان أبنائي ينظرون إلي بأعينهم البريئة، ولا أملك لهم إلا الصبر، مطمئنة إياهم بأن الوصول إلى العاصمة يعني انتهاء الألم.
وبعد شهر كامل من الجحيم، وصلنا إلى العاصمة. وقفت أمام مكتب المفوضية، شعرت بأنني وصلت إلى بر الأمان أخيرًا، لكن الأمل الذي حملته تبخّر حين علمت أن الحماية هنا ما هي إلا وهم آخر.
قالت لي صديقة تعرفت عليها في الطريق: “عليك الاتصال بالرقم وانتظار الرد، حتى يُحدّد لكِ موعد، ولن يُفيدكِ ذلك بشيء لأن السلطات لا تعترف بوضع اللاجئين هنا”. كانت كلمتها كطعنة في صدري، وأملي يتبخر في ثوانٍ.
مرت أيام طويلة من محاولات الاتصال، حتى حصلت أخيرًا على موعد للتسجيل.
ذهبت مع أطفالي وقدّمت كل ما في جعبتي من مآسي، أخبرتهم عن زوجي وابني المفقودين، لكنهم سجلوا فقط من كان معي.
أعطوني ورقة تحمل رقمي وصورتي و من معي من أطفالي، واعتبروا أن قصتي انتهت هناك.
أصبحت تلك الورقة شهادة على حقيقة لا يعترف بها أحد، ووثيقة تثبت أنني في عالم غير مرئي.
الصراع من أجل البقاء
بدأت أبحث عن عمل، وأقوم بأي وظيفة أجدها، من تنظيف المنازل إلى أعمال البناء البسيطة، كل ذلك فقط لأطعم أطفالي.
كان ذلك هو الأمل الأخير الذي بقي لي، وسط طوفان من البؤس الذي أحاط بي.
في كل ليلة، أعدهم بأن غدًا سيكون أفضل، رغم أنني لا أعرف ما إذا كنت أستطيع الوفاء بذلك الوعد.
وحتى اليوم، لا يزال زوجي وابني محمد في عداد المفقودين، لا أملك أي أخبار عنهما ولا أمل في عودتهما.
والآن، باتت فكرة ركوب البحر مغرية أكثر من أي وقت مضى.
كل ليلة، وأنا أنظر إلى وجوه أطفالي، أفكر: إما أن نصل إلى بر أمان لا يعرفنا فيه أحد، أو أن يحتوينا البحر، ولن يتذكرنا أحد.
كانت هذه قصتي، حكاية أم اختارت الأمل رغم قسوة العالم، أم آمنت أنهُ لأجل أطفالها يمكنها مواجهة أصعب الأهوال، حتى وإن كانت الرحلة تقود نحو مصير مجهول في عرض البحر.