مقاولون لا حقوقيون

في هذا الزمن المليء بالتناقضات، أصبحنا نعيش واقعًا يزخر بالمفارقات. نرى من يدّعون أنهم حراس العدالة، من يتحدثون عن الحقوق والمظالم، لكنهم في الحقيقة لا يختلفون كثيرًا عن أولئك الذين يحاربونهم. تحول الكثير من الحقوقيين إلى تجار قضايا، يحولون المظلومين إلى أوراق ضغط، والقضايا العادلة إلى صفقات رابحة.
حين نسمع أصواتهم العالية في وسائل الإعلام ومنصات التواصل، نكاد نصدق أنهم أبطال يناضلون من أجل الحق. يرفعون شعارات الحرية، يتحدثون باسم الفقراء والمظلومين، ويطالبون بتغيير الأنظمة الجائرة. لكن خلف الكواليس، يدور حديث آخر. الحديث الذي تُعقد فيه الصفقات، حيث يتم تسعير القضايا، وتحديد قيمة الوقوف مع هذا أو التخلي عن ذاك.
كم من حقوقي وقف أمام الكاميرات مدافعًا عن قضية ما، ثم تخلى عنها فجأة بعد أن تلقى اتصالًا أو عرضًا مغريًا؟ كم من صوت كان يصرخ في وجه الظلم، ثم خفت لأنه اصطدم بمصالحه الشخصية؟ هؤلاء ليسوا حقوقيين، بل مقاولو حقوق، يُديرون “مشاريع العدالة” كأنها شركات تبحث عن الربح، لا كقضية إنسانية تبحث عن الإنصاف.
لننظر حولنا بتمعن. نجد مظلومين يصرخون طلبًا للنجدة، ونجد من يسمع صراخهم ويحول معاناتهم إلى فرصة للظهور أو لتمويل حملته القادمة. نرى قضايا عادلة تُستخدم كوسيلة للابتزاز أو لتحقيق مكاسب سياسية. في النهاية، تظل المشكلة قائمة، والمظلوم على حاله، بينما يخرج هؤلاء المقاولون من المعركة بمزيد من الأضواء والمكاسب.
العدالة ليست وظيفة، بل التزام أخلاقي
الحقوقي الحقيقي ليس من يقف في الصفوف الأمامية فقط عندما تُتاح له الفرصة للظهور، بل هو من يلتزم بقضيته في الخفاء قبل العلن، ومن يرفض أن يساوم على مبادئه مهما كانت الإغراءات. العدالة ليست وظيفة تُمارس في أوقات الفراغ، وليست وسيلة لبناء شبكة علاقات أو جمع أموال. العدالة مبدأ سامٍ، ونضال مستمر لا يتوقف عند حدود المصالح.
الواقع المؤلم
المشكلة لا تقتصر على هؤلاء المقاولين فحسب، بل تمتد إلى واقعنا الذي يقبل هذا النوع من التلاعب. حين يصبح الناس مجرد أدوات تُستخدم لتحقيق أهداف شخصية، وحين يُقنعنا هؤلاء المقاولون بأنهم حماة الحق بينما هم جزء من المشكلة، فإننا نصبح شركاء في هذه الفوضى.
كم مرة رأينا قضايا إنسانية تُستغل لجمع التبرعات، ثم تختفي الأموال ولا نعلم مصيرها؟ كم مرة رأينا حقوقيين يهاجمون جهة ما ثم يدافعون عنها لاحقًا بعد أن تغيرت موازين القوى؟ هؤلاء لا يؤمنون بالعدالة، بل يؤمنون بالفرص، ويبحثون عن مواقعهم وسط الصراعات، لا عن حلول تنصف المظلومين.
رسالة أمل ومسؤولية
رغم هذا الواقع المظلم، لا يزال هناك مناضلون حقيقيون، من يقفون في وجه الظلم بلا خوف، ومن يرفضون بيع مبادئهم مهما كانت الإغراءات. هؤلاء هم الأمل، وهم من يجب أن ندعمهم ونقف بجانبهم. لكن المسؤولية الكبرى تقع علينا نحن، بأن نميز بين الحقوقي الحقيقي والمقاول المتاجر بالقضايا، وألا نسمح لأنفسنا بأن نكون جزءًا من لعبة المصالح التي يديرها هؤلاء
إذا أردنا عدالة حقيقية، فعلينا أن نعيد تعريف النضال من أجل الحق، وأن نرفض أن تكون القضايا الإنسانية مجرد وسيلة لتحقيق غايات شخصية. العدالة لا تتحقق على أيدي المقاولين، بل على أيدي أصحاب المبادئ، أولئك الذين لا يخشون أن يخسروا كل شيء في سبيل الدفاع عن الحق.
فلنتوقف عن منح هؤلاء المقاولين الفرصة للمتاجرة بمعاناتنا. الحقوق ليست للبيع، والقضايا ليست سوقًا للمساومات. إذا أردنا أن نرى تغييرًا حقيقيًا، فعلينا أن نبدأ من هنا: فضح من يتاجرون بالعدالة، والوقوف مع من يناضلون من أجلها بصدق.