اسمي خالد، كنت أعيش حياة بسيطة مع زوجتي ليلى وطفلينا، ياسمين وسامي، في حي صغير مليء بالذكريات. كل شيء كان طبيعيًا: أستيقظ صباحًا للذهاب إلى عملي كمهندس، وزوجتي تدرّس الأطفال في مدرسة الحي، بينما ياسمين وسامي يلعبان في حديقة منزلنا الصغيرة. لكن الحرب سرقت كل ذلك في لحظة، وتركتنا عالقين بين الركام والخوف.
لم يكن يوم سقوط القذائف الأول على مدينتنا عادياً. استيقظنا على أصوات الانفجارات، والسماء التي كانت زرقاء تحولت إلى رماد. في البداية، لم نصدق ما يحدث. حاولنا التمسك بأمل أن الأمور ستعود لطبيعتها، لكن الواقع كان أقسى من أن يُحتمل. المدارس أُغلقت، المستشفيات امتلأت بالمصابين، والطرقات أصبحت ساحات للموت.
ذات يوم، وبينما كنت عائدًا إلى المنزل، مررت بجوار مبنى مدمر. كان هناك صراخ ينبعث من تحت الركام، لكن لم يكن هناك أحد ليساعد. كنت أشعر بالعجز؛ أن ترى الموت حولك ولا تستطيع فعل شيء.
بعد أسابيع، لم يعد بإمكاننا البقاء في مدينتنا. منازل الجيران كانت تُدمر واحدًا تلو الآخر. سقطت قذيفة على منزل أحد أصدقائي، وقتلت جميع أفراد أسرته. تلك الليلة قررت أننا يجب أن نهرب.
غادرنا المنزل في ظلام الليل، تاركين كل شيء خلفنا. لم أحمل معي سوى حقيبة صغيرة فيها أوراقنا الرسمية وبعض الملابس. قطعنا مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، متنقلين بين القرى. كلما مررنا بمنطقة، كان الخوف يلاحقنا.
كنا نحاول تجنب نقاط التفتيش التي نصبتها القوات المختلفة. في إحدى الليالي، كدنا أن نقع في أيدي الميليشيات المسلحة. سمعنا أصواتهم تقترب، فاختبأنا بين الأشجار، وأنا أضم أطفالي بقوة حتى لا يصدروا صوتًا.
وبعد أسابيع من الهروب، وصلنا إلى إلي وجهتنا الجديدة. كنت أظن أنها ستكون محطة أمان لنا، لكنه كان مجرد مكان آخر للبقاء على قيد الحياة. كانت الأعمال ضئيلة و عدم وجود تأشيرة دخول و رقة إقامة كافية لجعلك في الشارع ، كان الطعام لا يكفي. ياسمين بدأت تعاني من سوء التغذية، وسامي أصيب بالحمى أكثر من مرة بسبب البرد القارس، لكن لم يكن هناك استطاعه للوصول إلي أطباء أو أدوية.
كانت الحياة مجردُ كابوسًا. أطفالي الذين كانوا يذهبون إلى المدرسة كل يوم أصبحوا عالقين في البيت بسبب عدم حصولي علي تصاريح للسماح لهم بالعلم، يسألونني متى ستعود حياتنا القديمة. لم أكن أملك إجابة.
بعد أشهر من البحث و السعي الطويل ، أخبرونا أننا يمكننا التقديم على طلب اللجوء. ظننت أن الأمور ستتحسن، لكن رحلة اللجوء كانت أطول وأصعب مما توقعت.
ورقة اللجوء كانت لا تساوي ثمن الحبر الذي خطت به في هذه البلد والانتظار كان بلا نهاية. كنا نحضر المقابلات مرة بعد أخرى، نجيب على أسئلة مكررة عن حياتنا ومعاناتنا. كل مرة كنت أشرح قصتنا، أشعر وكأنني أعيد فتح الجراح. أسئلة مثل: “كيف فقدتم منزلكم؟”، و”هل واجهتم تهديدًا مباشرًا؟” كانت تعيدني إلى تلك اللحظات المظلمة.
خلال فترة الانتظار، كنا نعيش في خوف مستمر من الترحيل. كنا نسمع عن عائلات فقدت حقها في اللجوء وأُعيدت إلى أوطانها التي لا تزال مشتعلة بالحرب. في إحدى الليالي، جاءت شرطة الهجرة إلى بيتي. كنت أحمل سامي بين يدي، وطلبوا منا إبراز وثائقنا. كانت لحظة مرعبة؛ كأنني مجرم رغم أن كل ما فعلته هو محاولة إنقاذ عائلتي.
في تلك الفترة، كنت أشعر بالعجز التام كأب. ياسمين كانت تسألني دائمًا: “متى أعود إلى المدرسة؟” لم أكن أستطيع أن أشرح لها أن مدرستها أصبحت الآن أنقاضًا. سامي بدأ يفقد مهاراته في القراءة والكتابة، وكان يشعر بأنه مختلف عن باقي الأطفال الذين كنا نلتقيهم أحيانًا.
أما الصحة، فكانت معاناة أخرى. سامي أصيب مرةً بحمى شديدة، ولم أجد طبيبًا . كنت أبقى مستيقظًا طوال الليل بجانبه، أضع قطعة قماش مبللة على جبينه وأدعو الله أن يتحسن.
وبعد سنوات من الانتظار، حصلنا على موافقة للجوء إلى بلد ثالث. كانت لحظة مزيج من الفرح والخوف.
عندما هبطت الطائرة في مطار وجهتنا الأخيرة، شعرت بأنني وصلت إلى بر الأمان أخيرًا.
لكن الحياة فيها لم تكن سهلة. اللغة كانت حاجزًا كبيرًا، والعمل كان أصعب. بدأت أعمل في وظيفة تنظيف، بينما كانت ليلى تساعد في أعمال خياطة صغيرة من المنزل. كنا نعيش في شقة صغيرة، نحاول توفير المال لتعليم أطفالنا.
الأطفال بدأوا حياتهم من جديد، لكنهم كانوا يشعرون بالاختلاف. ياسمين كانت تبكي أحيانًا لأنها لا تستطيع تكوين صداقات بسهولة بسبب لغتها. سامي كان يسألني دائمًا: “لماذا تركنا بلدنا؟ هل سنعود يومًا؟”
رغم أن الحياة أصبحت أكثر استقرارًا، إلا أن الغربة كانت ترافقنا في كل لحظة. كنا نشعر أننا نعيش بين عالمين: عالم تركناه خلفنا بكل ما فيه من ألم، وعالم جديد نحاول التأقلم معه.
في الليل، عندما ينام الجميع، كنت أجلس وحدي أفكر في كل ما فقدناه. الوطن الذي أصبح ذكرى، والأصدقاء الذين لم يعد لهم وجود، والأحلام التي اضطررنا إلى دفنها. لكن وسط كل ذلك، كنت أجد القوة في عائلتي.
واليوم، بعد سنوات من اللجوء، نحن هنا نحاول بناء حياة جديدة. أطفالي الآن يذهبون إلى المدرسة، وليلى وجدت وظيفة قريبة من البيت. لكن الحنين لا يزال يسكننا. الغربة ليست مجرد بعد عن المكان، إنها شعور بأنك فقدت جزءًا منك لن يعود أبدًا.
حين يهربُ الوطن بداخلك
هذه قصتي، قصة رجل حاول إنقاذ عائلته وسط أهوال الحرب. ربما نجونا من الجحيم، لكن الندوب التي تركتها الحرب ستظل جزءًا منا إلى الأبد.
