جثة مجهولة

كانت ليلةً حالكة السواد. السماء ملبدة بالغيوم، وكأنها تبكي على من يسيرون تحتها. اختبأتُ بين الظلال، أراقب الطريق المظلم بعينين مرهقتين، مليئتين باليأس. صوت البحر العنيف خلفي كان يتردد في أذنيّ، كأنه يحكي قصص الأرواح التي لم تصل إلى بر الأمان. كنتُ أهرب من جحيم بلادي، وطنٍ أصبح يرقص على أنغام الموت والدمار.
لم أكن أملك في تلك اللحظة سوى أملٍ هش كخيط عنكبوت يتمسك بشجرةٍ تتهاوى. حقيبتي الصغيرة تحمل معي ذكريات عائلتي التي فقدتها، وصورة لأطفالي الثلاثة الذين اختطفهم الموت في غارة جوية. كان لديَّ شيء واحدٌ فقط: الرغبة في البقاء على قيد الحياة.
انطلقت مع مجموعةٍ من الغرباء، مهاجرين مثلي، نجري نحو ما ظنناه حلمًا، نحو مكان قد يمنحنا ما سُلب منا من كرامة وأمان. قطعنا الصحاري الحارقة، نمنا تحت السماء العارية، نتقاسم بقايا الخبز والماء المالح. كنا نعلم أن الموت قد يكون رفيقًا لنا في أي لحظة، لكن الأمل كان يدفعنا للمضي.
في إحدى الليالي، ونحن نغوص بين الكثبان الرملية، سمعنا صوت سيارات تقترب. انحشرنا بين الصخور نرتجف خوفًا. رأيناهم يبحثون عن فرائس جديدة؛ أولئك الذين يقتاتون على بقايا أحلامنا، لكننا تملصنا منهم واختبأنا بعيدًا.
وصلنا أخيرًا إلى الساحل، هناك حيث كان علينا انتظار القارب الذي سيوصلنا إلى أوروبا. جلسنا في كوخٍ مهترئ، نتمسك بحديثٍ خافت عن الآمال التي دفنّاها في وطننا. نظرت إلى النجوم، متسائلًا إن كانت أرواح أطفالي تراقبني الآن.
عند الفجر، جاء القارب. كان صغيرًا ومتهالكًا، لكنه امتلأ بأرواحٍ متعبة تحمل بصيص أمل. صعدنا إليه، وسط أمواج البحر التي تتلاطم بشراسة، والرياح التي تعصف بنا. بدأنا الرحلة، وكنا في كل موجة نشعر بأن النهاية تقترب، نصلي، نبكي، ونتشبث ببعضنا.
في منتصف الليل، وسط أعماق البحر، بدأت تشققات القارب تظهر. ارتفع صراخ الأطفال والنساء، وامتدت الأيدي طلبًا للنجاة. كنت أرى كل شيء بوضوح؛ أمًّا تحتضن ابنها، تتوسل للبحر أن يرحمها. كنت أحمل صورة أطفالي، أسبح، ولكن الأمواج كانت أقوى. شعرت بأنني أغرق، أن روحي تتسلل خارج جسدي.
واليوم، أنا جثة على الشاطئ.
لا رقم، لا هوية، لا حتى جنازة تليق بإنسانيتي. حينما ألقتني الأمواج على رمال الشاطئ، كانت عيناي المفتوحتان تهمس قصص الأحلام التي غاصت في قاع البحر. رأني بعض الصيادين؛ نظرة ألم في عيونهم، وأيادٍ تجمع الأغطية لتغطية جسدي. وضعوني على عربة متهالكة، وسحبوني بعيدًا عن الشاطئ. رحلتي الأخيرة كانت بين أيدي غرباء، لم يعرفوا اسمي أو حكايتي، لكنهم شعروا بإنسانيتي.
وصلت جثتي إلى المشرحة، إلى صفوفٍ من الأجساد الباردة المجهولة، المنتظرة. وضعوني في مكان معتم، حيث أرقامي هي هويتي الوحيدة. ربما سيجدني أحدهم يومًا، وربما سأظل هنا للأبد، كصوتٍ صامت يحكي عن رحلة لم تنتهِ، وفي النهاية سأدفن كجثة مجهولة الهوية.
أو قد أكون محظوظًا ليتم دفني من قبل الهلال الأحمر. سيجمع المتطوعون حولي، يضعونني في قبر بسيط، يصلّون عليّ، يمنحونني وداعًا أخيرًا يليق بإنسانيتي. لن أكون جثةً مجهولة في أعينهم، بل إنسانًا يحمل قصة من الألم والأمل. سيتركون على قبري زهرة، علامة على الاحترام والكرامة التي لم أتمكن من نيلها في حياتي.
وفي الختام، سأبقى رمزًا لكل الأرواح التائهة، التي لم تجد طريقها إلى الأمان، تذكيرًا بأننا جميعًا بشر، نستحق الحياة، نستحق الكرامة… حتى في الموت.